فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

سورة العلق:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{اقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خلق}
أي: اقرأ ما يوحى إليك من القرآن ملتبسًا باسمه تعالى، أي: مبتدئًا به لتتحقق مقارنته لجميع أجزاء المقروء.
قال أبو السعود: والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية، والتبليغ إلى الكمال اللائق شيئًا فشيئًا مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام، وللإشعار بتبليغه عليه السلام إلى الغاية القاصية من الكمالات البشرية، بإنزال الوحي المتواتر.
ووصف الرب بقوله تعالى: {الَّذِي خلق} لتذكير أول النعماء الفائضة عليه صلى الله عليه وسلم منه تعالى. والتنبيه على أن من قدر على خلق الإنسان على ما هو عليه من الحياة، وما يتبعها من الكمالات العلمية والعملية، من مادة لم تشم رائحة الحياة فضلًا عن سائر الكمالات، قادر على تعليم القراءة للحي العالم المتكلم، أي: الذي أنشأ الخلق واستأثر به أو خلق كل شيء.
وقال الإمام: ترى من سياق الرواية التي قدمناها أن المتبادر من معنى الآية الأولى: كن قارئًا باسم الله من قبيل الأمر التكويني. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قارئًا ولا كاتبًا؛ ولذلك كرر القول مرارًا: «ما أنا بقارئ». وبعد ذلك جاء الأمر الإلهي بأن يكون قارئًا وإن لم يكن كاتبًا، فإنهُ سينزل عليه كتاب يقرؤه وإن كان لا يكتبه. ولذلك وصف الرب بالذي خلق، أي: الذي أوجد الكائنات التي لا يحيط بها الوصف، قادر أن يوجد فيك القراءة وإن لم يسبق لك تعلمها؛ لأنك لم تكن تدري ما الكتاب. فكأن الله يقول: كن قارئًا بقدرتي وبإرادتي. وإنما عبر بالاسم، لأنه كما سبق في سورة سبّح، دال على ما تعرف به الذات، وخلق القراءة يلفتك إلى الذات وصفاتها جميعًا، لأن القراءة علم في نفس حية؛ فهي تخط ببالك من الله وجودهُ وعلمه وقدرته وإرادته.
أما إذا حملنا الأمر على التكليف وقلنا: إن المعنى أنك مأمور إذا قرأت أن تقرأ باسم الله- وهو خلاف المتبادر- فيكون معنى ذلك: إذا قرأت فاقرأ دائمًا على أن تكون قراءتك عملًا تنفذه لله لا لغيره، فلو فرض أنهُ قرأ وجعل قراءته لله لا لأحد سواه ولم يذكر الاسم، فهو قارئ باسم الله، وإنما طلبت التسمية باللسان لتكون منبهة للضمير في بداية كل عمل، إلى أن يرجع إلى الله في ذلك العمل. ويلاحظ أنه يعمل لاسمه لا لاسم غيره سبحانه. انتهى.
وهو جيد.
{خلق الإنسان مِنْ علق} أي: دم جامد، وهي حالة الجنين في الأيام الأولى لخلقه، وتخصيص خلق الإنسان بالذكر من بين سائر المخلوقات، لاستقلاله ببدائع الصنع والتدبير وتفخيمًا لشأنه؛ إذ هو أشرفها وإليه التنزيل. وهو المأمور بالقراءة وإنما قال: {علق} دون علقة كما في الآية الأخرى، لرعاية الفواصل، ولأن {الإنسان} مراد به الجنس.
فهو في معنى الجمع؛ فلذا جمع ما خلق منه ليطابقه. وخص العلق دون غيره من التارات، لأنه أدل على كمال القدر، من المضغة، مع استلزامه لما تقدمهُ، ومع رعاية الفواصل.
قال الإمام: أي: ومن كان قادرًا على أن يخلق من الدم الجامد إنسانًا، وهو الحيّ الناطق الذي يسود بعلمه على سائر المخلوقات الأرضية، ويسخرها لخدمته، يقدر أن يجعل من الإنسان الكامل مثل النبي صلى الله عليه وسلم قارئًا، وإن لم يسبق له تعلم القراءة. وجاء بهذه الآية بعد سابقتها، ليزيد المعنى تأكيدًا، كأنه يقول لمن كرر القول أنه ليس بقارئ: أيقن أنك قد صرت قارئًا بإذن ربك الذي أوجد الكائنات، وما القراءة إلا واحدة منها. والذي أنشأ الإنسان خلقا كاملًا من دم جامد لا شكل فيه ولا صورة. وإنما القراءة صفة عارضة على ذلك الإنسان الكامل، فهي أولى بسهولة الإيجاد، ولما كانت القراءة من الملكات التي لا تكسبها النفس إلا بالتكرار، والتعوّد على ما جرت به العادة في الناس، ناب تكرار الأمر الإلهي عن تكرار المقروء، في تصييرها ملكة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فلهذا كرر الأمر بقوله: {اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم} وجملة {وَرَبُّكُ} إلخ استئنافية لبيان أن الله أكرم من كل من يرتجي منه الإعطاء، فيسيرٌ عليه أن يفيض عليك هذه النعمة، نعمة القراءة من بحر كرمه. ثم أراد أن يزيده اطمئنانًا بهذه الموهبة الجديدة، فوصف مانحها بأنه {الَّذِي عَلَّمَ بالقلم} أي: أفهم الناس بواسطة القلم كما أفهمهم بواسطة اللسان. والقلم آلة جامدة لا حياة فيها، ولا من شأنها في ذاتها الإفهام؛ فالذي جعل من الجماد الميت الصامت آلة للفهم والبيان، ألا يجعل منك قارئًا مبيّنًا وتاليًا معلمًا وأنت إنسان كامل؟ ثم أراد أن يقطع الشبهة من نفسه، ويبعد عنه استغراب أن يقرأ ولم يكن قارئًا، فقال: {عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يعلم} أي: أن الذي صدر أمرهُ بأن تكون قارئًا، وأوجد فيك ملكة القراءة والتلاوة، وسيبلغك فيها مبلغًا لم يبلغهُ سواك، هو الذي علم الإنسان جميع ما هو متمتع به من العلم، وكان في بدء خلقه لا يعلم شيئًا، فهل يستغرب من هذا المعلِّم الذي ابتدأ العلم للإنسان ولم يكن سبق له علم بالمرة، أن يعلمك القراءة وعندك كثير من العلوم سواها ونفسك مستعدة بها لقبول غيرها؟ انتهى.
تنبيهات:
الأول: قال الإمام ابن القيم في (مفتاح دار السعادة) في مباحث عجائب الإنسان وما خلقه من الحكم: ثم تأمل نعمة الله على الإنسان بالبيانين: البيان النطقي والبيان الخطي، وقد اعتد بهما سبحانه في جملة ما اعتد به من نعمة على العبد، فقال في أول سورة أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {اقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خلق خلق الإنسان مِنْ علق ٍ اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم ُ الَّذِي عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يعلم} فتأمل كيف جمع في هذه الكلمات مراتب الخلق كلها، وكيف تضمنت مراتب الوجودات الأربعة بأوجز لفظ وأوضحه وأحسنه، فذكر أولًا عموم الخلق وهو إعطاء الوجود الخارجي، ثم ذكر ثانيًا خصوص خلق الإنسان لأنه موضع العبرة. والآية فيه عظيمة، ومن شهوده عما فيه محض تعداد النعم. وذكر مادة خلقه هاهنا من العلقة. وفي سائر المواضع يذكر ما هو سابق عليها. أما مادة الأصل وهو التراب والطين أو الصلصال الذي كالفخار، أو مادة الفرع وهو الماء المهين، وذكر في هذا الموضع أول مبادئ تعلق التخليق وهو العلقة؛ فإنه كان قبلها نطفة فأول انتقالها إنما هو إلى العلقة، ثم ذكر ثالثًا التعليم بالقلم الذي هو من أعظم نعمه على عباده؛ إذ به تخلد العلوم وتثبت الحقوق وتعلم الوصايا وتحفظ الشهادات ويضبط حساب المعاملات الواقعة بين الناس، وبه تقيد أخبار الماضين للباقين اللاحقين، ولولا الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عن بعض، ودرست السنن وتخبطت الأحكام، ولم يعرف الخلف مذاهب السلف، وكان معظم الخلل الداخل على الناس في دينهم ودنياهم، إنما يعتريهم من النسيان الذي يمحور صور العلم من قلوبهم؛ فجعل لهم الكتاب وعاء حافظًا للعلم من الضياع، كالأوعية التي تحفظ الأمتعة من الذهاب والبطلان؛ فنعمة الله عز وجل بتعليم القلم بعد القرآن من أجلِّ النعم، والتعليم به- وإن كان مما يخلص إليه الإنسان بالفطنة والحيلة- فإن الذي بلغ به ذلك وأوصله إليه عطية وهبها الله منه، وفضل أعطاه الله إياه، وزيادة في خلقه وفضله. فهو الذي علمه الكتابة، وإن كان هو المتعلم ففعله فعل مطاوع لتعليم الذي علم بالقلم، فإنه علمه فتعلّم كما أنه علمه الكلام فتكلم، هذا ومن أعطاه الذهن الذي يعي به، واللسان الذي يترجم به، والبنان الذي يخطّ به، ومن هيأ ذهنهُ لقبول هذا التعلم دون سائر الحيوانات، ومن الذي أنطق لسانه وحرك بنانه، ومن الذي دعم البنان بالكف، ودعم الكف بالساعد؛ فكم لله من آية نحن غافلون عنها في التعليم بالقلم؛ فقف وقفة في حال الكتابة وتأمل حالك وقد أمسكت القلم وهو جماد، ووضعته على القرطاس وهو جماد، فتولد من بينهما أنواع الحكم وأصناف العلوم وفنون المراسلات والخطب والنظم والنثر، وجوابات المسائل. فمن الذي أجرى فلك المعاني على قلبك، ورسمها في ذهنك، ثم أجرى العبارات الدالة عليها على لسانك، ثم حرك بها بنانك حتى صارت نقشًا عجيبًا، معناهُ أعجب من صورته، فتقضي به مآربك وتبلغ به حاجة في صدرك، وترسلهُ إلى الأقطار النائية والجهات المتباعدة، فيقوم مقامك، ويترجم عنك، ويتكلم على لسانك ويقوم مقام رسولك، ويجدي عليك ما لا يجدي من ترسلهُ، سوى من علم بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يعلم؟ والتعليم بالقلم يستلزم المراتب الثلاثة: مرتبة الوجود الذهني والوجود اللفظي والوجود الرسمي، فقد دل التعليم بالقلم أنه سبحانه هو المعطي لهذه المراتب.
ودل قوله: {خلق} على أنه يعطي الوجود العيني. فدلت هذه الآيات- مع اختصارها ووجازتها وفصاحتها- على أن مراتب الوجود بأسرها مسندة إليه تعالى خلقا وتعليمًا. وذكر من صفاته ها هنا اسم {الأكرم} الذي هو فيه كل خير وكل كمال، فله كل كمال وصفًا، ومنه كل خير فعلًا. فهو {الأكرم} في ذاته وأوصافه وأفعاله، وهذا الخلق والتعليم إنما نشأ من كرمه وبره وإحسانه، لا من حاجة دعتهُ إلى ذلك، وهو الغني الحميد.
الثاني: قال الإمام: لا يوجد بيان أبرع ولا دليل أقطع على فضل القراءة والكتابة والعلم بجميع أنواعه من افتتاح الله كتابه وابتدائه الوحي بهذه الآيات الباهرات. فإن لم يهتد المسلمون بهذا الهدى، ولم ينبههم النظر فيه إلى النهوض إلى تمزيق تلك الحجب التي حجبت عن أبصارهم نور العلم، وكسر تلك الأبواب التي غلقها عليهم رؤساؤهم وحبسوهم بها في ظلمات من الجهل، وإن لم يسترشدوا بفاتحة هذا الكتاب المبين، ولم يستضيئوا بهذا الضياء الساطع، فلا أرشدهم الله ابدًا.
الثالث: قال الرازي: في قوله: {بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خلق خلق الإنسان مِنْ علق} إشارة إلى الدلالة العقلية الدالة على كمال القدرة والحكمة والعلم والرحمة. وفي قوله: {الَّذِي عَلَّمَ بالقلم} إشارة إلى الأحكام المكتوبة التي لا سبيل على معرفتها إلا بالسمع، فالأول كأنه إشارة إلى معرفة الربوبية. والثاني إلى النبوّة. وقدم الأول على الثاني تنبيهًا على أن معرفة الربوبية غنية عن النبوة، وأما النبوة فإنها محتاجة إلى معرفة الربوبية. وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإنسان لَيَطْغَ ى أن رَّآهُ استغنى إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرجعى} [6- 8]
{كَلَّا إِنَّ الإنسان لَيَطْغَ ى أن رَّآهُ استغنى} أي: حقًا أن الإنسان ليتجاوز حده ويستكبر على ربه، أن رأى نفسه استغنت. فـ {كَلَّا} بمعنى حقًا لعدم ما يتوجه إليه الردع ظاهرًا، لتأخر نزول هذا عما قبله- على ما تقدم في المأثور- أو هو ردع لمن كفر بنعمة الله بطغيانه وإن لم يذكر، لدلالة الكلام عليه. فإن مفتتح السورة إلى هذا المقطع يدل على عظيم منته تعالى على الإنسان فإذا قيل:
{كَلَّا} يكون ردعًا للإنسان، ينعم عليه ربه بتسوية خلقه وتعليمه ما لم يكن يعلم، وإنعامه بما لا كفء له، ثم يكفر بربه الذي فعل به ذلك ويطغى عليه أن رآه استغنى.
قال الكرخي، ومذهب أبي حيان أن كلا بمعنى ألا الاستفتاحية، وصوبه ابن هشام بكسر همزة إن بعدها كما بعد حرف التنبيه. وفي (الكواشي): يجوز في كلا أن تكون تنبيهًا، فيقف على ما قبلها. وردعًا، فيقف عليها.
تنبيه:
دلت الآية على قاعدة عظيمة في باب التموّل المحمود، قررها الحكماء المصلحون، وهو أن لا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير.
قالوا: لأن إفراط الثروة مهلكة للأخلاق الحميدة في الإنسان، كما نطقت به الآية الكريمة.
قال بعض الحكماء: التحول لأجل الحاجات وبقدرها، محمود بثلاثة شروط، وإلا كان حرص التمول من أقبح الخصال:
الشرط الأول: أن يكون إحراز المال بوجه مشروع حلال، أي: إحرازه من بذل الطبيعة أو بالمعارضة أو في مقابل عمل.
والشرط.
الثاني: أن لا يكون في التمول تضييق على حاجات الغير، كاحتكار الضروريات، أو مزاحمة الصناع والعمال الضعفاء، أو التغلب على المباحات، مثل امتلاك الأراضي التي جعلها خالقها ممرحًا لكافة مخلوقاته. وهي أمهم ترضعهم لبن جهازاتها وتغذيهم بثمراتها وتؤويهم في حضن أجزائها.
الشرط الثالث: لجواز التمول هو أن لا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير، وإلا فسدت الأخلاق. ولذلك حرمت الشرائع السماوية كلها، والحكمة السياسية والأخلاقية والعمرانية أكل الربا؛ وذلك لقصد حفظ التساوي والتقارب بين الناس في القوة المالية؛ لأن الربا كسب بدون مقابل ماديّ، ففيه معنى الغضب، وبدون عمل، ففيه الألفة على البطالة المفسدة للأخلاق، وبدون تعرض لخسائر طبيعية كالتجارة والزراعة والأملاك. دع أن بالربا تربو الثروات، فيختل التساوي بين الناس، كما تقدم بيانه في أواخر سورة البقرة.
وقوله تعالى: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرجعى} أي: المرجع في الآخرة.
قال أبو السعود: تهديد للطاغي وتحذير له من عاقبة الطاغين. والالتفات للتشديد في التهديد، و{الرجعى} مصدر بمعنى الرجوع. وتقديم الظرف لقصره عليه، أي: أن إلى مالك أمرك رجوع الكل بالموت والبعث، لا إلى غيره، استقلالًا ولا اشتراكًا، فسترى حينئذ عاقبة طغيانك. وقد جوز كون الخطاب للرسول صلوات الله عليه، والتهديد والتحذير بحاله.
{أَرَأَيْتَ الَّذِي ينهى عَبْدًا إِذَا صلى}
أي: يمنعه عن الصلاة. وعبر بالنهي إشارة إلى عدم اقتداره على غير ذلك.
قال ابن عطية: لم يختلف المفسرون في أن الناهي أبو جهل والعبد المصلي النبيُّ صلى الله عليه وسلم. كما روي في الصحيحين، ولفظ البخاري عن ابن عباس: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدًا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لو فعله لأخذَته الملائكة».
وفي الآية تقبيح وتشنيع لحال ذاك الكافر، وتعجيب منها وإيذان بأنها من الشناعة والغرابة بحيث يجب أن يراها كل من يتأتى منه الرؤية ويقضي منها العجب. ولفظ العبد وتنكيره، لتفخيمه عليه السلام، واستعظام النهي وتأكيد التعجب منه.
وقيل: إنه من إرخاء العنان في الكلام المنصف، إذ قال: {ينهى} ينهى ولم يقل: يؤذي، و: {عَبْدًا} دون: نبيًا، والرؤية هاهنا بصرية، وفيما بعدها قلبية. معناه: أخبرني. فإن الرؤية لما كانت سببًا للإخبار عن المرئي، أجرى الاستفهام عنها مجرى الاستخبار عن متعلقها.
قاله أبو السعود.
وقال الإمام: كلمة أرأيت صارت تستعمل في معنى أخبرني، على أنها لا يقصد بها في مثل هذه الآية الاستخبار الحقيقيّ، ولكن يقصد بها إنكار المستخبر عنها وتقبيحها. فكأنه يقول: ما أسخف عقل هذا الذي يطغى به الكبر فينهى عبدًا من عبيد الله عن صلاته، خصوصًا وهو في حالة أدائها.
وقوله: {أَرَأَيْتَ أن كَانَ عَلَى الهدى أَوْ أَمَرَ بالتقوى} أي: أرأيت إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله، أو كان آمرًا بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان، كما يعتقد؟ وجواب الشرط محذوف دل عليه ما بعده، أي: ألم يعلم بأن الله يرى. وعليه فالضمائر كلها لـ: {الَّذِي ينهى} وجوز عود الضمير المستتر في {كَانَ} للعبد المصلي. وكذا في {أَمَرَ} أي: أرايت الذي ينهى عبدًا يصلي؟ والمنهيّ على الهدى آمر بالتقوى. والنهي مكذب متول، فما أعجب من هذا! وذهب الإمام رحمه الله، في تأويل الآية إلى معنى آخر، وعبارته: أما قوله: {أَرَأَيْتَ أن كَانَ عَلَى الهدى أَوْ أَمَرَ بالتقوى} فمعناه أخبرني عن حاله إن كان ذلك الطاغي على الهدى وعلى صراط الحق، أو أمر بالتقوى مكان نهيه عن الصلاة، أفما كان ذلك خيرًا له وأفضل؟
وقوله: {أَرَأَيْتَ أن كَذَّبَ وتولى} أي: نبئني عن حاله إن كذب بما جاء به النبيون، وتولى أي: أعرض عن العمل الطيب، أفلا يخشى أن تحل به قارعة ويصيبه من عذاب الله ما لا قبل له باحتماله؟ فجواب كل من الشرطين محذوف كما رأيت في تفسير المعنى وهو من الإيجاز المحمود، بعد ما دل على المحذوف بقوله: {أَلَمْ يعلم بِأَنَّ اللَّهَ يرى} أي: أجهِل أن الله يطلع على أمره؟ فإن كان تقيا علي الهدى أحسن جزاءه، وإن كذب وتولى لم يفلت من عقوبته، ثم إن ما يطيل به المفسرون في المفعول الثاني لفعل {أَرَأَيْتَ} الأولى ومفعوليها في الثانية والثالثة، فهو مما لا معنى له؟ لأن القرآن قدوة في التعبير، وقد استعملها بمفعول واحد وبلا مفعول أصلًا بمعنى أخبرني. والجملة المستخبر عن مضمونها، تسد مسد المفاعيل. انتهى كلامه رحمه الله.
{كَلَّا} ردع عن النهي عن الصلاة {لئن لم ينته} أي: عن هذا الطغيان، وعن النهي عن الصلاة، وعن التكذيب والتولي {لَنَسْفَعًا بالناصية} أي: لنأخذن بناصيته، ولنسحبنه بها إلى النار. والسفع: القبض على الشيء وجذبه بشدة. والأخذ بالناصية هنا مَثَلٌ في القهر والإذلال والتعذيب والنكال.
وقوله تعالى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خاطئة} بدل من الناصية، ولم يقتصر على إحدى الجملتين، لأن ذكر الأولى للتنصيص على أنها ناصية الناهي والثانية لتوصف بما يدل على علة السفع وشموله لكل من وجد فيه ذلك. ووصفها بالكذب والخطأ، وهما لصاحبها، على الإسناد المجازي، للمبالغة لأنها تدل على وصفه بالكذب بطريق الأولى، ولأنه لشدة كذبه كان كل جزء من أجزائه يكذب. وكذا حال الخطأ، وهو كقوله: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} [النحل: 62]، و: وجهها يصف الجمال، والتجوز بإسناد ما للكل إلى الجزء، كما يسند إلى الجزئيّ في قوله: بنو فلان قتلوا قتيلًا، والقاتل أحدهم.
لطيفة:
قال في (البحر): كتبت نون {لَنَسْفَعًا} بالألف باعتبار الموقف عليها بإبدالها ألفًا.
وقال السمين: الوقف على هذه النون بالألف تشبيهًا لها بالتنوين، وتكتب هنا ألفًا اتباعًا للوقف لأن قاعدة الرسم مبينة على حال الوقف والابتداء.
{فَلْيَدْعُ ناديه} أي: أهل مجلسه، ليمنع المصلين ويؤذي أهل الحق الصادقين، اتكالًا على قوتهم وغفلة عن قهر الحق وسخطه. والجملة إما بتقدير مضاف، أو على الإسناد المجازي من إطلاق اسم المحل على من حلّ فيه. والنادي المجلس الذي ينتدي فيه القوم، أي: يجتمعون.
{سَنَدْعُ الزبانية} أي: زبانية العذاب من جنوده تعالى فيهلكونه في الدنيا، أو يردونه في النار في الآخرة وهو صاغر. ولم يرسم {سَنَدْعُ} بالواو في المصاحف باتباع الرسم للفظ، أو لمشاكلة قوله: {فَلْيَدْعُ} وقيل: إنه مجزوم في جواب الأمر، وفيه نظر.
{كَلَّا} ردع للناهي بعد ردع، وزجر إثر زجر {لَا تُطِعْهُ} أي: لا تطع ذاك الطاغي إذا نهاك عن عبادة ربك.
قال الزمخشري: أي: أثبت على ما أنت عليه من عصيانه كقوله: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [القلم: 8]، {وَاسْجُدْ واقترب} أي: صل لربك وتقرب منه بالعبادة وتحبب إليه بالطاعة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. فأكثروا من الدعاء».
تنبيهات:
الأول: قدمنا أن الآيات نزلت في أبي جهل، على ما صح في الأخبار، قال الإمام: ولا مانع من أن يكون في الآيات إشارة إليه، ولكنها عامة في كل وقت وزمن كما ترى. والخطاب فيها موجه إلى من يخاطب لا إلى شخص النبي صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.
الثاني: قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): إنما شدد الأمر- أمر الوعيد- في حق أبي جهل ولم يقع مثل ذلك لعقبة بن أبي معيط، حيث طرح سَلَى الجزور على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو يصلي- لأنهما وإن اشتركا في مطلق الأذية حال صلاته لكن زاد أبو جهل بالتهديد وبدعوة أهل طاعته، وبوطء العنق الشريف. وفي ذلك من المبالغة ما اقتضى تعجيل العقوبة له، لو فعل ذلك. وقد عوقب عقبه بدعائه صلى الله عليه وسلم وعلى من شاركه في فعله، فقتلوا يوم بدر، كأبي جهل.
الثالث: قال الإمام: ذكر الصلاة في الصورة لا يدل على أن بقيتها نزل بعد فرض الصلاة، فقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صلاة قبل أن تفرض الصلوات الخمس المعروفة.
الرابع: قال في (اللباب): سجدة هذه السورة من عزائم سجود التلاوة عند الشافعيّ. فيسنّ للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءتها. يدل عليه ما روي عن أبي هريرة قال: «سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في {اقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خلق} و{إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ}» أخرجه مسلم في صحيحه. اهـ.